سورة مريم - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)}
قوله عزّ وجلّ {كهيعص} قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، ضدّه شامي وحمزة وخلف، بكسرهما، والكسائي، بفتحهما، ابن كثير وعاصم ويعقوب، واختلفوا في معناها.
فقال ابن عباس: هو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ، وقيل: إنّه اسم الله الأعظم، وقال قتادة: هو اسم من اسماء القرآن، وقيل: هو اسم السورة، وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس: هو قَسم أقسم الله تعالى به، وقال الكلبي: هو ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامدُ بن محمد، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي، قال أبو عمّار عن جرير، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله عزّ وجلّ {كهيعص} قال: الكاف من كريم، والهاء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق، وقال الكلبي أيضاً: معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريته، صادق في وعده {ذِكْرُ} رُفِع بكهيعص وإن شئت قلت: هذا ذكر {رَحمة رَبّكَ عَبْدَهُ زَكريا}، وفيه تقديم وتأخير، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب.
وقرأ بعضهم عبده زكريّا بالرفع على أنّ الفعل له {إِذْ نادى} دعا {رَبّهُ} فى محرابه حيث يقرب القربان {نداءً خفيّاً} دعاء سرّاً من قومه فى جوف الليل، مخلصاً فيه لم يطلع عليه أحد إّلا الله عزّ وجلّ قال: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ} ضعف {العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً} شمطاً، يقول: شخت وضعفت، ومن الموت قربت {ولم أكن بدعائك ربِّ شقياً} يقول: يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني.
قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} قرأ عثمان ويحيى بن يعمر، {خفت} بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الموالي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت، الباقون: {خفت} بكسر الخاء وضم التاء من الخوف، الموالي نصباً، خاف أن يرثه غير الولد، وقيل: خاف عليهم تبديل دين الله عزّ وجلّ وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أُمّته، فسأل ربّه ولداً صالحاً يأمنه على أُمّته، والموالي بنو العمّ وقيل: الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد، وقال مجاهد: العصبة، وقال أبو صالح: الكلالة، وقال الكلبي: الورثة من ورائي من بعد موتي {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} لا تلد {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ} أعطني من عندك {وَلِيّاً} ابناً {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة، أي وليّاً وارثاً، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر: {يرثني}، وأرث {مِنْ آلِ يَعْقُوَب} النبّوة، يعني يرث النبوّة والعلم، وقال الحسن: معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة والحبورة، وقال الكلبي: هو يعقوب بن ماثان اخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} أي صالحاً براً تقياً مرضيّاً، وقال أبو صالح: معناه: اجعله نبياً كما جعلت أباه نبيّاً.
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا: أخبرنا: مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} يقول عند ذلك: «رحم الله زكريا، ما كان عليه من ورثة».
قوله: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} فيه اضمار وإختصار، يعني فاستجاب دعاءه فقال: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} ولد ذكر {اسمه يحيى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال قتادة والكلبي: لم يُسمَّ أحدٌ قبله يحيى، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير وعطاء: لم نجعل له شبيهاً، ومثله دليله قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي مِثلاً وعدلاً، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل: لم يكن له مثل فى أمر النساء لأنه كان سيّداً وحصورا وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس: لم تلد العواقر مثله ولداً، وقيل: إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه السلام، وقيل: إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى، وقيل: إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه.
{قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي وامرأتي عاقر كقوله: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] أي من هو في المهد صبيّ {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} أي يبساً، قال قتادة: نحول العظمْ يقال: ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن، وقال أبو عبيد: هو كل مبالغ فى شر أو كفر فقد عتا وعسا، وقرأ أُبيّ وإبن عباس عسيّاً، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عتياً بكسر العين ومثله جثيّاً وصليّاً وبُكيّاً والباقون بالضم فيهما وهما لغتان.
{قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ}، من قبْل يحيى، {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً} آيةً على حمل امرأتي {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} أي صحيحاً سليماً من غير ما بأس ولا خرس، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيراً لونه فأنكروه فقالوا له: مالك يا زكريّا؟ فاوحى أي أومى إليهم، ويقال: كتب في الأرض أن سبّحوا وصلّوا لله عزّ وجلّ بُكرةً وعشياً والسبحة الصلاة.
قوله: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} بجدّ {وَآتَيْنَاهُ الحكم} يعني الفهم {صَبِيّاً} يعني في حال صباه، وقال معمّر: جاء صِبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا: اخرج بنا نلعب، فقال: ما للّعب خلقت، فأنزل الله عزّ وجلّ وآتيناه الحكم صبيّا {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} رحمة من عندنا، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب:
تحنّنْ علىَّ هداك المليك *** فإن لكلّ مقام مقالاً
أي ترحم، ومنه قوله: حنانيك مثل سعديك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأصله من حنين الناقة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما أدري ما حناناً إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده.
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} قال: الحنان: المحبّة {وَزَكَاةً} قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص.
وقال الضحاك: هي الفعل الزاكي الصالح، وقال الكلبي: يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه، وقيل: بركة ونماء وزيادة. وقيل: جعلناه طاهراً من الذنوب.
{وَكَانَ تَقِيّاً} مسلماً مخلصاً مطيعاً.
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا علي بن عبدان، حدَّثنا أبو الأزهر، حدَّثنا ابن القطيعي قال: سمعت الحسن قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلاّ قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا».
{وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} باراً بهما لا يعصيهما {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً} قالا: متكبراً.
قال الحلبي: الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب.
{عَصِيّاً} شديد العصيان لربّه.
{وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} قال الحلبي: سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّاً.
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا: أنبأنا أبو حاتم التميمي، حدثنا أبو الازهر السّليطيّ، حدثنا رؤبة، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير مني، وقال يحيى: استغفر لي، أنت خير منّي، فقال له عيسى: أنت خير مني، سلّمتُ على نفسي وسلَّم الله عليك.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)}
{واذكر فِي الكتاب} القرآن {مَرْيَمَ} وهي ابنة عمران بن ماثان {إِذِ انتبذت}.
قال قتادة: انفردت. الكلبي: تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية {مَكَاناً شَرْقِياً} يعني مشرقة، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء.
قال الحسن: اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مكاناً شرقياً {فاتخذت} فضربت {مِن دُونِهِم حِجَاباً} قال ابن عباس: ستراً، قال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، قال عكرمة: إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهراً، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلْق.
فذلك قوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} يعني جبرئيل عليه السلام وقيل: روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل {فَتَمَثَّلَ} فتصور لها بشراً آدمياً سويّاً لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه، فلمّا رأته مريم {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} مؤمنا مطيعاً.
قال علي بن أبي طالب: علمت أن التقيّ ذو نهية، وقيل: كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت: إنْ كنت في الصلاح مثل التقي فإني أعوذ بالرحمن منك، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد؟ قال لها جبرئيل {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} أي يقول لأهب لك، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولداً {غُلاَماً زَكِيّاً} صالحاً تقياً {قَالَتْ} مريم {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ولم يقربني روح {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فاجرة وإنما حُذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه.
قال جبرئيل {كذلك} كما قلتِ يا مريم ولكن قال ربّك وقيل هكذا {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} خلْق ولد من غير أب {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} علامة هذه {لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} لمن تبعه على دينه.
{وَكَانَ} ذلك {أَمْراً مَّقْضِيّاً} معدوداً مسطوراً في اللوح المحفوظ.
{فَحَمَلَتْهُ} وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته، وقيل: نفخ جبرئيل من بعيد نفخاً فوصل الريح إليها فحملت، فلمّا حملت {فانتبذت} خرجت وانفردت {مَكَاناً قَصِيّاً} بعيداً من أهلها من وراء الجبل، ويقال اقصى الدار.
قال الكلبي: قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف: إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها، فهرب بها، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له: إنّه من روح القدس فلا تقتلها، فتركها، ولم يقتلها فكان معها.
واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها، فقال بعضهم: كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء، ومنهم من قال: ثمانية أشهر وكان ذلك آية أُخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى، وقيل: ستّة أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: ساعة واحدة.
قال ابن عباس: ما هو إلاّ أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إّلا ساعة: لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلاً.
وقال مقاتل بن سليمان: حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى.
{فَأَجَآءَهَا المخاض} ألجأها وجاء بها المخاض، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل، وقيل: الطلق.
{إلى جِذْعِ النخلة} وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدةّ الشتاء ولم يكن لها سعف.
وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال: كان جذعاً يابساً قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم.
{قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} قرأ يحيى بن وتاب والأعمش وحمزة: نسياً بفتح النون، والباقون بالكسر، وهما لغتان مثل: الوَتر والوِتَر والحَجر والحِجر والجَسر والجِسر، وهو الشيء المنسي.
قال ابن عباس: يعني شيئاً متروكاً، وقال قتادة: شيئاً لا يذكر ولا يعرف، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد: حيضة ملقاة.
قال الربيع: هو السقط وقال مقاتل: يعني كالشىّ الهالك. قال عطاء بن أبي مسلم: يعني لم أُخلق، وقال الفرّاء: هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، وقال أبو عبيد: هو ما نُسي واغفل من شئ حقير. قال الكميت:
اتجعلنا جسراً لكلب قضاعة *** ولست بنسي في معد ولا دخل
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا حاجب بن محمد قال: حدَّثنا محمد بن حمّاد قال: حدَّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت: لوددت أني إذا متُ كنت نسياً منسياً.
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي: من تحتها بكسر الميم وهو جبرئيل عليه السلام ناداها من سفح الجبل، وقرأ الباقون من تحتها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها: {أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قال الحسن: يعني عيسى كان والله عبداً سرياً أي رفيعاً، وقال سائر المفسّرين: هو النهر الصغير، وقيل معنى قوله سبحانه {تَحْتَكِ} إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي}
[الزخرف: 51] أي من تحت أمري، قال ابن عباس: فضرب جبرئيل: ويقال عيسى: برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت، وقيل لمريم {وهزى إِلَيْكِ} أي حرّكي {بِجِذْعِ النخلة} يقول العرب: هزّه وهزّ به كما يقال: خذ الخطام وخذ بالخطام، وتعلّق بزيد وتعلق زيداً، وخذ رأسه وخذ برأسه، وامدد الحبل، وامدد بالحبل، والجذع: الغصن، والجذع: النخلة نفسها.
{تُسَاقِطْ} قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير: يساقط بالياء، وقرأ حفص تُساقِط بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد: تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين، فمن أنَّث ردَّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام والتخفيف على الحذف.
{رُطَباً جَنِيّاً} غصناً رطباً ساعة جُني.
وقال الربيع بن خيثم: ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل.
وقال عمرو بن ميمون: ما أدري للمرأة إذا عسُر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً}.
وقالت عائشة رضي الله عنه: إنَّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة.
{فَكُلِي} يا مريم من الرطب {واشربي} من النهر {وَقَرِّي عَيْناً} وطيبي نفساً {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} فسألك عن ولدكِ أو لامكِ عليه {فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} يقال: إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال: أمرها أن تقوله نطقاً ثم تمسك عن الكلام بعد هذا.
{فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} يقال: كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس.
{فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} قال الكلبي: احتمل يوسف النجّار مريم وابنها عيسى عليه السلام إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوماً حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها {فَأَتَتْ} مريم {بِهِ} بعيسى تحمله بعد أربعين يوماً، فكلّمها عيسى في الطريق فقال: يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين.
{قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} فظيعاً منكراً عظيماً، قال أبو عبيدة: كل من عجب أو عمل فهو فري، قال النبي صلى الله عليه وسلم في عمر رضي الله عنه: «فلم أر عبقرياً يفري فريه» أي يعمل عمله، قال الراجز:
قد أطعمتني دقلاً حوليا *** مسوسا مدوداً حجرياً
قد كنت تفرين به الفريا.
أي كنت تكثيرن فيه القول وتعظمينه.
{ياأخت هَارُونَ} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «انّما عنوا هارون النبي اخا موسى لأنها كانت من نسله».
وقال قتادة وغيره: كان هارون رجلاً صالحاً من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى، ذُكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل، وقال المغيرة بن شعبة: قال لي أهل نجران قوله: {ياأخت هَارُونَ} وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وآله فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالانبياء والصالحين من قبلهم.
وقال الكلبي: كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أُمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل، وقيل: إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فساداً فشبّهوها به، وعلى هذا القول الأُخت ها هنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة، والعرب تسمي شبه الشيء أُخته وأخاه، قال الله سبحانه {وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] أي شبهها.
{مَا كَانَ أَبُوكِ} عمران {امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ} حنّة {بَغِيًّا} زانية فمن أين لك هذا الولد؟ {فَأَشَارَتْ} مريم إلى عيسى أن كلّموه فقالوا {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} أي من هو في المهد وهو حجرها، وقيل: هو المهد بعينه وقد كان حشواً للكلام ولا معنى له كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] أي أنتم خير أُمة وكقوله: {هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] أي هل أنا، وكقول الناس إن كنتَ صديقي فصلني، قال زهير:
أجرت عليه حرّة أرحبيّة *** وقد كان لون الليل مثل الأرندج
وقال الفرزدق:
فكيف إذا رأيت ديار قومي *** وجيران لنا كانوا كرام
أي وجيران لنا كرام، قال وهب: فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى: انطق بحجّتك إن كنت أُمِرْتَ بها، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوماً. وقال مقاتل: هو يوم ولد.
{إِنِّي عَبْدُ الله} فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيباً للنصارى وإلزاماً للحجة عليهم.
قال عمرو بن ميمون: إن مريم لما أتت قومها بعيسى اخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها، قالوا: ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: خمسة تكلّموا قبل إباّن الكلام: شاهد يوسف، وولد ماشطة بنت فرعون، وعيسى، وصاحب جريح، وولد المرأة التي أحرقت في الأُخدود.
فأمّا شاهد يوسف فقد مرَّ ذكره، وأمّا ولد الماشطة، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدَّثنا داود بن سليمان قال: حدَّثنا عبد بن حميد قال: حدَّثنا الحسن بن موسى قال: حدَّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أُسري به مرّت به رائحة طيبة فقال: يا جبرئيل ما هذه الرائحة؟ قال: ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنته: أبي؟ فقالت: لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك.
فقالت: أخبر بذلك أبي قالت: نعم، فأخبرته فدعا بها فقال: من ربّك؟ قالت: ربّي ورّبك في السماء، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأُحميت فدعا بها وبولدها فقالت: إن لي إليك حاجة قال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعاً فقال: ذلك لك علينا من الحق، فأمر بأولادها فألقى واحداً واحداً حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعاً فقال: اصبري يا أُماه فإنّا على الحق، قال: ثم أُلقيت مع ولدها.
وأمّا صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني قال: أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال: حدَّثنا أحمد بن الخليل قال: حدَّثنا يونس بن محمد المؤدب، قال: حدَّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال: حدَّثنا راشد بن سليمان قال: حدَّثنا عبد بن حميد قال: حدَّثنا هاشم بن القاسم قال: حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنّ رجلاً يقال له جريح كان راهباً يتعبّد في صومعته فأتته أُمّه لتسلّم عليه فنادته: يا جريح اطلع إليّ انظر إليك، فوافقته يصلّي فقال: أُمّي وصلاتي لرّبي، أُوثر صلاتي لربّي على أُمّي، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته: يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت: إنّه أبى أن يكلّمني، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة، قال: ولو دعت عليه أن يفتن لفتن».
قال: وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاماً فقيل لها: ممّن هذا؟ فقالت: من صاحب الصومعة، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم، فلمّا مرَّ على حوانيت الزواني خرجن، فتبسم وعرف أنّه دعاء أُمّه، فقالوا: لم يضحك حين مرَّ على الزواني؟ فلمّا أُدخل على ملكهم قال جريح: أين الصبي الذي ولدت؟ فأتي به فقال له جريح: مَنْ أبوك؟ قال: أبي فلان الراعي، فابرأ الله سبحانه جريحاً وأعظمه الناس، وقالوا: نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال: لا ولكن أعيدوه كما كان، ثمّ علاه.
وأمّا ولد صاحبة الأُخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله.
{آتَانِيَ الكتاب} يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل، وقيل: إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم متى كُتبتَ نبياً؟ قال: «كُتبتُ نبياً وآدم بين الروح والجسد».
وقيل: معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أُمّي.
{وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً} معلماً للخير {أَيْنَ مَا كُنتُ} وقيل: مباركاً على من اتّبع ديني وأمري {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً} أي وجعلني براً {بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً}.
أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا: أخبرنا مكّي بن عبدان، قال: حدَّثنا أحمد بن الأزهر قال: حدَّثنا روح بن عبادة قال: حدَّثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يُحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن اللّه له فيهنّ فقالت: طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أُرضعت به، فقال ابن مريم يجيبها: طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جباراً شقيّاً، وكان يقول: سلوني فإنّ قلبي ليَّن وإنيّ صغير في نفسي، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع.
{والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق} يعني هو قول الحق، وقيل: رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق، وقيل: هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله، والحق هو الله سبحانه.
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} يشكّون ويقولون غير الحق، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، وقالت النصارى: ابن الله وثالث ثلاثة، ثمّ كذّبهم فقال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد، وقيل: اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد {سُبْحَانَهُ} نزّه نفسه {إِذَا قضى أَمْراً} كان في علمه {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ الله} يعني وقضى أن الله، وقرأ أهل الكوفة إنّ الله بالكسر على الاستيناف {رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا} الذي ذكرت {صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} يعني النصارى، وانّما سمّوا أحزاباً لأنهّم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية.
{فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني يوم القيامة {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} يعني ما أسمعهم وأبصرهم، على التعجّب، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر.
قال الكلبي: لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} الآية [المائدة: 116].
{يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر} أي فرغ من الحساب وأُدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} من الدنيا.
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال: حدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: «يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال: يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون: نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى زنهم».
، ثمَّ قرأ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وأشار بيده في الدنيا.
قال مقاتل: لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك.
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي نميتهم ويبقى الرب عزّ وجلّ فيرثهم.
{وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} فنجزيهم بأعمالهم.


{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)}
{واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} مؤمناً موقناً صدوقاً {نَّبِيّاً} رسولاً رفيعاً {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ} آزر وهو يعبد الأوثان {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} صوتاً {وَلاَ يُبْصِرُ} شيئاً {وَلاَ يُغْنِي عَنكَ} لا ينفعك ولا يكفيك {شَيْئاً} يعني الأصنام {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم} والبيان بعد الموت وأنّ من غيره عذّبه {مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني} على ديني {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} مستوياً.
{ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} لا تطعه، لم تصل، له ولم تصم وإنّ من أطاع شيئاً فقد عبده {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} عاصياً عاتياً، وكان بمعنى الحال أي هو، وقيل بمعنى: صار.
{ياأبت إني أَخَافُ} أعلم {أَن يَمَسَّكَ} يصيبك {عَذَابٌ مِّنَ الرحمن} لقوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229] وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا} [البقرة: 229] وقيل: معناه إنّي أخاف أن ينزل عليك عذاباً في الدنيا {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} قريناً في النار، فقال له أبوه مجيباً له {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم} تارك عبادتهم وزاهد فيهم {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك {لأَرْجُمَنَّكَ} قال الضحاك ومقاتل والكلبي: لأشتمنّك، وقال ابن عباس: لأضربنّك، وقيل لأُظهرنّ أمرك {واهجرني مَلِيّاً} قال الحسن وقتادة وعطاء: سالماً، وقال ابن عباس: واعتزلني سالم العرض لا يصيبنّك منّي معرّة، وقال الكلبي: اتركني واجتنبني طويلاً فلا تكلّمني، وقال سعيد بن جبير: دهراً، وقال مجاهد وعكرمة: حيناً، وأصل الحرف المكث، ومنه يقال: تملّيت حيناً، والملوان الليل والنهار.
{قَالَ} إبراهيم {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} أي سلمت منيّ لا أصيبك بمكروه {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} قال ابن عباس ومقاتل: لطيفاً رحيماً، وقيل: بارّاً، وقال مجاهد: عوّده إلاجابة، وقال الكلبي: عالماً يستجيب لي إذا دعوته.
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله، قال مقاتل: كان اعتزاله اياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة.
{وَأَدْعُو رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً} يعني عسى أن يجيبني ولا يخيّبني، وقيل: معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام.
{فَلَمَّا اعتزلهم} ما تَدْعُون: تعبدون {مِن دُونِ الله} يعني الأصنام فذهب مهاجراً {وَهَبْنَا لَهُ} بعد الهجرة {إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب {وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا} نعمتنا، قال الكلبي: المال والولد، وقيل: النبوّة والكتاب، بيانه قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} يعني ثناءً حسناً رفيعاً في كلّ أهل الأديان، وكلّ أهل دين يتولّونهم ويثنون عليهم.
{واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} يعني غير مرائي، قال مقاتل: مسلماً موحداً، وقرأ أهل الكوفة: مخلَصاً بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً * وَنَادَيْنَاهُ} دعوناه وكلّمناه ليلة الجمعة {مِن جَانِبِ الطور الأيمن} يعني يمين موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلاّ حجاب واحد.
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: أخبرنا مكّي بن عبدان قال: حدَّثنا أبو الأزهر قال: حدَّثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: قرّبه حتى سمع صريف القلم، والنجيّ: المناجي كالجليس والنديم.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} وذلك حين سأل موسى ربّه عزّ وجلّ فقال: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه: 29-30] وحين قال: {فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ} [الشعراء: 13] فأجاب الله دعاءه.
{واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} يعني ابن إبراهيم {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} كان إذا وعد أنجز، وذلك أنّه وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل، قاله مقاتل، وقال الكلبي: انتظره حتى حال الحول عليه. {وَكَانَ رَسُولاً} إلى قومه {نَّبِيّاً} مخبراً عن الله سبحانه.
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود {بالصلاة والزكاة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} صالحاً زاكياً.

1 | 2